[size=24][b]لذا عدل البربير إلى استطلاع رأى عبد الرحمن الأفندى الذى لا نعلمه شيئا فقال :
"فقلنا له: إن كلا منكما أدنى إلى الفضل بحجة، وسلك من الدلائل العقلية والنقلية أوضح محجبة، غير أن تكافؤ الأدلة، غادر منا الأفكار مضمحلة، وقد عجزت عن ترجيح فضلكما الأفكار، كما عجز القاضي الأفعى عن الحكم لأبناء لذار، وليس لهذه المعضلة، والحادثة العظيمة المشكلة، إلا الكبار لا الهمج الرعاع، كما قيل: إن الكبار أطب للأوجاع.
قال بعضهم:
إن العظيم يحمل العظيما ... كما الجسيم يحمل الجسيما
ولعمري ليس لها غير إمام، وغرة شامنا ومصرنا، المجتهد الذي قلد ببره أعناقنا تقليدا، وأخجل لطفه غض الزهر فتستر بأكمامه حتى رأينا في خدوده توريدا، أعظم الموالي قدرا، وأعلاهم نجرا، وأرحبهم صدرا، وأكثرهم برا، وأنفذهم نهبا وأمرا، وأعدلهم نحيزة، وألينهم شنشنة وغريزة، ذو اليدين، الذي كأنه ذو الخلال أو ذو النورين، من لو رآه ذو الجناحين لطار لفضله، أو ذو البطنين لمال لبذله، أو ذو الأذنين لروى أحاديث شمائله الملاح، أو ذا الهلالين لقال أنه الشمس وغرة الصباح، صاحب الطالع السعيد، الجاري سيب كفه على الصعيد جري السعيد، الجواد، المذهب غلة الجواد، من برز في ميدان الفضل وبرز، وحوى قصبات الرهان وأحرز، وزركش تاج المجد وطرز، المسحود، المحشود، رشيد الموالي وعين أمينها، وأبو عذرة المروة وابن مدينها، والمتقلد من فرائد المحامد بثمينها،خلاصة العباد من العباد، وثمرة دوح روض الحقاق من آل مراد، من فضله الجوهر الفرد عند كل منصف وعندي، جناب مولانا وسيدنا عين أعيان الموالي الكرام السيد عبد الرحمن أفندي، لا زال وهو البر بحر الجود، ونجم الهدى والسعود، موطئ العقب والأكناف، حامي الذمار والأطراف، منيفا على آل عبد مناف، ملحوظا بعين العناية والألطاف فإنه عذيق الشام المرجب، وروضها المشذب المهذب، ومعشوقها المحبب، روحها الذي به قوامها، وسلكها الذي لا يتم إلا به نظامها، فكل من لم يشن إلى قصده العنان، كان أشد ندما عن الكسعي وأخسر صفقة من أبي غبشان، لأنه لا يصرف الهمة، ادني الهمة، ولا تبصر منه إلا رأيا كالنجم في الدآدئ المدلهمة، عنده الحجنة، اعظم هجنه، وخلف الوعد، خلق الوغد، وعدم الجود بالموجود، من سوء الظن بالمعبود، له توكل الطير، وعنده لا سرف في الخير، يحب المحاسنة، ويكره المخاشنة، ويحاشى مجلسه من المحاشنة، فياله من جواد واسع المجسه، لا يرتاع من لمحسه، ونجيب لا يقعقع له بالشنان، ولا ينبه بطرق الحصا وهل ينبه اليقظان، وإن تأملت عزمه ولحظة، تحققت أنه أسد بيشة ولحظة، فمن باراه فقد نافس حوتا وصارع ضرغاما، وقاوم بالهرارة عضبا حساما، ونطح بقرنه المقطم، ورام أن يحكي بسرابه البحر الغطمطم، ولم يعلم أن بيت القدس، غير بيت المقدس، وأن بقيع الغرقد، غير رقيع الفرقد، وأن شجر المرخ، غير شجر الورخ، وأن الزنبور غير البازي وإن شاركه في الخفق والطيران، وإن ورد السلم غير ورد البستان، ولله در من قال:
قد يبعد من شيء يشابهه ... إن السماء شبيه البحر في الرزق
ومن قال:
وقد يتقارب الوصفان جدا ... وموصوفا هما متباعدان
فإن يفق الأنام وذاك منهم فإن المسك بعض دم الغزال
كما قلت فيه:
لا غرور لابن المرادي ... وذاك شمس المواكب
إن فاق كل الموالي ... فالشمس بعض الكواكب
فهلم للوفود عليه، والمثول بين يديه، فهو الذي يستنبط المسائل، ويرضي بفضله وبذله كل مسائل، وإن لم يكن غير مكارمه إليه وسائل.
فلما سمع الماء والهواء بمعروف ذلك الحبيب السري، والإمام الهمام العبقري، تعشقاه على السماع، طلبا منا المبادرة إلى جنابه ليبلغا منه حظ الاجتماع، فسرنا بهما إلى جنابه، حتى بلغنا فسيح رحابه، وكحلنا الجفون بأثمد أعتابه، فصادف دخولنا خروج كعبة ذاته من حرم الحرم، فكأنما خرج الورد من الأكمام ولليث من الأجم، فنهضنا له على الأقدام، وحيانا بألطف سلام، وتسلم سلم قصر الفريد، وأشار إلينا أن نتبعه في الصعود إلى ذلك القصر المشيد، فرأينا قصرا ينسب الخورنق للقصور، ويغمد غمدان كما تغمد في أجفانها الذكور، وما بالك بقصر شهدت فضلاء الأكياس، بأنه جمع محاسن الدنيا كما جمع صاحبة محاسن الناس (فكنا كما قال القاضي الفاضل):
فمنعت أماني بمولي هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
ثم أمر لنا بالجلوس، هذا وعطف كل منا من الطرب ينوس، فأقبلت علينا ذات الدولة وبنت الوجاق، التي كلما مرت حلت، وكلما ثقلت خفت على كل من رشف منها وذاق، السمراء المعشوقة، المقبولة مشروبة ومرئية ومنشوقة، بنت اليمن واليمن، ذات الجمال والحسن.
شعر:
كسواد العيون تظهر للنا ... س سوادا وفي الحقيقة نور
التي أرخصت الغالية وكانت ندها، وملكت عنبر الطيب فأصبح يقول لا تدعني إلابيا عبدها، وغارت منها بكر السلاف حتى اصفرت من غيرتها، وأين بنت الحرام من بنت الحلال، وأين جونة المسك من قوارير الأبوال، فأخذنا تلك البنية بالنية الصافية، وشربناها فقامت بها دعائم العافية، ولم نزل نرشف منها ذوب المسك ومحلول السبج، حتى جأتنا قصبات السبق للسرور تنادي ما على من أحرز قصبات وتاه من حرج، فيالها قصبات تدهش الأبصار، كأنها أغصان بان في طرف كل غصن زهرة من جلنار، وقد اشتمل مجلسنا على كل نديم له صورة الدمية ونفجة الريحانة ونشوة السلافة ولطافة الدرة اليتيمة والجمانة، أديب ألمعي، كأنه الأصمعي، تراه الكامل في الأدب، والعمدة في كل مطلب يأتيك من البديع، بما يخجل ربيع الزهر وزهر الربيع، يثمر المسامرة، ويحضر المحاضرة، ويتقن المحاورة، ويحسن المجاورة، يبادهك بما رق وراق، يجلب لك الغصن من أزهار الأفكار وثمرات الأوراق، يجود على السمع بما يطلبه القلب من الاقتراح، ويجلو عليك من راح ملحه ما يوجب لك الراحة والارتياح (كما قيل في أمثالهم)
لنا جلساء لا يمل حديثهم ... ألباء مأمونون غيبا ومشهدا
إذا ما خلونا حسن حديثهم ... معينا على نفي الهموم ومسعدا
يفيدوننا من علمهم علم من مضى ... وعقلا وتهذيبا ورأيا مسددا
ولا غيبة نخشى ولا سوء عشرة ... ولا نتقي منها لسنا ولا يدا
وما زلنا نقتطف منهم زهور الآداب، ونغترف ثمار الألباب، وهم يمزجون جدهم بالمفاكهة والمباسطة، ويزهون كالعقد وصاحب المنزل لهم كالواسطة، ومجلسه يحتفل بالوافدين، ويغص بالواردين، وهو يخاطب كلا على قدره وعقله، ويتحف كل من له وطر بقضاء وطره، ولا يتعلل كغيره بشغله، حتى أقبل ملك الليل بسواده الأعظم، ونثر على الأفلاك جواهر النجوم التي كأنها العقد المنظم، هذا ونحن في فلك السعود، كوكبنا ومساؤنا دخان العنبر والعود، وقد أشرق بدر تلك المنازل بالنور والكمال، وأشرف علينا بجبين لطيف رأينا عليه الهلال، وشنف ندر منطقه منا الإسماع، حتى خيل لكل منا أنه جليس القعقاع. وما زلنا في ليلنا نجمع عقود السرور كأنها فذلك، وتتمتع بنعيم لو سئلنا عن أنفس أعمارنا فذلك، حتى نبذا لله الكري في هامة منا وراس، فأسكرتنا سنة النوم والنعاس، وهجم علينا ملك الكري، وقد كاد أن يشيب عارض الليل مما سال من دمع الشمع وجرى، وعند ذلك طوينا من المنادمة بساطها، وتفرقنا تطلب كل نفس منا راحتها وانبساطها، ثم اصطحبنا على الوساد للرقاد، وأعطينا الجفون حقها من الإغفاء بعد السهاد، ولم نزل في ضيافه المنام، تقرينا أياديه السرور في الأحلام، حتى لفظ الشرق من لهواته ياقوته سهيل، ودب مشيب الفجر في عارض الليل، فنهضنا للصلاة، وجلس كل منا في مصلاه، حتى طلعت شمس صاحبنا الفلق، على الصاحب ابن عباد، فنفذ شعاعها من ظواهرنا إلى كل قلب منا وفؤاد، ثم دخلنا عليه وسلمنا ودعونا له بطول البقا، فأجاب وأجاد وأجاز وتلقنا أحسن اللقا، ثم جاءت القهودة التي طابت منظرا وخبرا وذوقا وشما، ثم جيء بقصبات التبغ فارتضعنا منها كل ثدي يلذ دره ريحا ولنا وطعما."
الرجل هنا امتدح عبد الرحمن فقال كلاما جعله فى مقام الأنبياء (ص) فقال:
"ولعمري ليس لها غير إمام، وغرة شامنا ومصرنا، المجتهد الذي قلد ببره أعناقنا تقليدا، وأخجل لطفه غض الزهر فتستر بأكمامه حتى رأينا في خدوده توريدا، أعظم الموالي قدرا، وأعلاهم نجرا، وأرحبهم صدرا،... خلاصة العباد من العباد، وثمرة دوح روض الحقاق من آل مراد، من فضله الجوهر الفرد عند كل منصف وعندي، جناب مولانا وسيدنا عين أعيان الموالي الكرام السيد عبد الرحمن أفندي، لا زال وهو البر بحر الجود، ونجم الهدى والسعود... فصادف دخولنا خروج كعبة ذاته من حرم الحرم، فكأنما خرج الورد من الأكمام ولليث من الأجم بأنه جمع محاسن الدنيا كما جمع صاحبة محاسن الناس (فكنا كما قال القاضي الفاضل)"
وهو كلام لا يقوله مسلم حيث جعل الجوهر الفرد وهو محمد(ص) من فضل عبد الرحمن والغريب أنه شتم نفسه ومن معه فجعله نفسه وأصحابع نجاسة البول بينما عبد الرحمن جونة المسك وهو قوله "وأين جونة المسك من قوارير الأبوال "
واستعمل البربير التعبيرات الدالة على حرمة بعض محرم الله ليعبر بها عن الحلال مثل استعمال السكر فى النوم فى قوله "فأسكرتنا سنة النوم والنعاس، "
ثم جاءنا بتحليل الدخان الضار بالصحة فقال " ثم جاءت القهودة التي طابت منظرا وخبرا وذوقا وشما، ثم جيء بقصبات التبغ فارتضعنا منها كل ثدي يلذ دره ريحا ولنا وطعما."
وفى النهاية آتانا البربير بحكم عبد الرحمن فقال :
"فلما استوفيا منها أوفر حظ، وخلا مجلسنا من كل بارد ثقيل فظ، وشرب ذلك البحر المحيط بالفضل غليونه، وأراد أن يلقي علي لكوني من الساحل بعض درره الثمينة، بادرته بالدعاء، وعرضت عليه مفاخرة الماء والهواء، وسألته فصل الخطاب، والإنعام بالجواب. فالتفت عند ذلك للماء وأخيه، وقال: إن كلا منكما محق فيما يدعيه، فما أشبهكما في السماء بالفرقدين وفي الأرض بالعينين، ففضلكما معجز لا يكاد يميز أحدكما عن أخيه مميز، وقد نفع الله بكما العالم على تباين أنواعه وأشكاله، وقد ورد أن الخلق عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله، فلا تشتغلا بالمفاخرة عن شكر هذه النعمة، واعلما أن حب الفخار أهبط إبليس إلى حضيض اللعنة من أوج سرف الرحمة، فلا تجعلاه لكما إماما، فمن يفعل ذلك يلق أثاما، واعلما إن الفخر في الدنيا بالمال، وفي الآخرة بالأعمال، واحسن الافتخار الافتقار، وظهور الذل والانكسار، فقد قال من سال من بين أصابعه الماء المنهمر، الفقر فخري وبه افتخر، فمن كان عبد الله كان له به الافتخار، لا من كان عبد النفس أو الهوى أو الدرهم أو الدينار، فمن مناجاة على كرم الله وجهه وزاده منه قربا، سيدي كفانا شرفا أن نكون لك عبيدا وكفانا عزا أن تكون لنا ربا.
وللقاضي عياض:
ومما زادني شرفا وتيها ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيرت أحمد لي نبيا
على أن مرآة الحق أرتني فضيلة تفضل بها أيها الماء، أخاك الهواء، وحققت لي بأنكما لستما في الفضل سواء، وهي أن الله خلق آدم من الماء، وخلق إبليس، فاعترف لأخيك بالفضل عليك ودع عنك زخارف التلبيس، فأكبر من الحق من قبله وأصغر من الباطل من عمله، والتذلل للحق أقرب للعز من التعزز بالباطل، وأعظم الزلات زلة العاقل.
فعند ذلك عدل الهواء عن هوجه واعوجاجه، ومخاصمته وعلاجه، وأقبل يقبل ذيل الماء ويعتذر إليه، من استطابته عليه، وأقبل كل منهما على صاحب المنزل يؤدي بالدعاء له حقوقه، حيث سلك بكل منهما مجاز الطريقة والحقيقة."
وحكم عبد الرحمن حكم باطل فقد قال ان الطرفين كلاهما على الحق بقوله" وقال: إن كلا منكما محق فيما يدعيه" ثم ناقض نفسه عندما طالب الهواء أن يغارف بفضل الماء فقال" على أن مرآة الحق أرتني فضيلة تفضل بها أيها الماء، أخاك الهواء، وحققت لي بأنكما لستما في الفضل سواء، وهي أن الله خلق آدم من الماء، وخلق إبليس، فاعترف لأخيك بالفضل عليك ودع عنك زخارف التلبيس"
فكيف يكون كلاهما على حق ومع هذا واحد منهما أفضل من الأخر ؟إنه الجنون
والغريب أن عبد الرحمن نقض الكتاب كله لنهى الطرفين عن الافتخار بقوله :
" فلا تشتغلا بالمفاخرة عن شكر هذه النعمة، واعلما أن حب الفخار أهبط إبليس إلى حضيض اللعنة من أوج سرف الرحمة"
ثم بان جهل عبد الرحمن بقوله :"وقد ورد أن الخلق عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله"
فالرجل جعل الخلق عيال الله مع قوله تعالى " لم يلد ولم يولد " وقوله "وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا"
فالله نفى أن يكون له عيال أو أولاد
ثم نجد عبد الرحمن يقول أن الفخر يكون بالفقر فى قوله "الفقر فخري وبه افتخر" ثم ناقض قوله بكون الفخر يكون بالله فى قوله " فمن كان عبد الله كان له به الافتخار"[/size][/b]