وكتبه صلاح الدين الإدلبي:
[size=18]حديث "فسطاط المسلمين يوم الملحمة الغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق"[/size]
رُوي هذا الحديث من حديث أبي الدرداء وعوف بن مالك ومعاذ بن جبل ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وله شاهد ببعض معناه من حديث أبي هريرة ومن مرسل أبي الزاهرية:
ـ فأما حديث أبي الدرداء فرواه ابن حنبل وأبو داود ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ وأبو زرعة الدمشقي في الفوائد المعللة والبزار والطبراني في مسند الشاميين والمعجم الأوسط عن جماعة عن يحيى بن حمزة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فسطاط المسلمين يوم الملحمة الغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها دمشق". وفي عدد من هذه المصادر زيادة "هي من خير مدائن الشام". ورواه الطبراني في مسند الشاميين وابنُ عساكر من طريقين عن صدقة بن خالد عن خالد بن دهقان عن زيد بن أرطاة به نحوه.
وهذا الإسناد متصل ورجاله ثقات، فظاهره الصحة، ولكنه معلول بالإرسال:
وذلك أن هذا الحديث رواه ابن حنبل في فضائل الصحابة عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن محمد بن راشد المكحولي عن مكحول عن جبير بن نفير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فسطاط المؤمنين في الملحمة الغوطة، مدينة يقال لها دمشق، هي خير مدائن الشام". [أبو سعيد عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني هاشم ثقة فيه لين. محمد بن راشد المكحولي دمشقي سكن البصرة، ثقة فيه لين مات بعد سنة 160. مكحول دمشقي ثقة مات سنة 115 تقريبا. جبير بن نفير حمصي ثقة مات سنة 80].
ورواه أبو داود ـ ومن طريقه ابن عساكر ـ عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن برد أبي العلاء عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا. [موسى بن إسماعيل ثقة. حماد بن سلمة ثقة فيه لين. برد بن سنان أبو العلاء دمشقي سكن البصرة، صدوق ثقة فيه لين مات سنة 135].
ورواه ابن عساكر من طريق الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول مرسلا.
ومكحول سمع الحديث من جبير بن نفير، فالظاهر أنه كان يرويه أحيانا عنه بالإرسال ويرسله هو أحيانا أخرى.
وخلاصة الأمر في إسناد حديث أبي الدرداء أن زيد بن أرطاة رواه عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه مكحول عن جبير بن نفير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا، فالطريق الموصول معلول بعلة الإرسال.
ولعل في الروايات التي كشفت علة حديث أبي الدرداء ما يؤكد الإعلال الذي أشار إليه أبو زرعة الدمشقي رحمه الله إذ روى هذا الحديث في الفوائد المعللة.
ـ وأما حديث عوف بن مالك فرواه ابن حنبل والبزار والطبراني في الكبير وفي مسند الشاميين وابن عساكر من طرق عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اعدد يا عوف ستا بين يدي الساعة، ... تحت كل راية اثنا عشر ألفا، فسطاط المسلمين يومئذ في أرض يُقال لها الغوطة، في مدينة يُقال لها دمشق". [صفوان بن عمرو ثقة. عبد الرحمن بن جبير بن نفير ثقة فيه لين].
يبدو أن هذه الرواية مركبة من حديثين:
أحدهما ما رواه البخاري وابن ماجه وابن حبان والطبراني في مسند الشاميين والحاكم والبيهقي من طرق عن الوليد بن مسلم عن عبد الله بن العلاء بن زبر عن بسر بن عبيد الله أنه سمع أبا إدريس قال: سمعت عوف بن مالك قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال: "اعددْ ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يُعطى الرجل مئة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا". ورواه الطبراني في مسند الشاميين من طريق عبد الله بن محيريز عن عبد الله بن العلاء بن زبر به نحوه. وهو مروي من طريق ضمرة بن حبيب وعبد الله بن الديلمي ومحمد بن أبي محمد والشعبي وعبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد وهشام بن يوسف كلهم عن عوف بن مالك به نحوه.
وثانيهما ما رواه ابن حنبل وغيره من طريق زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فسطاط المسلمين يوم الملحمة الغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها دمشق". ورواه ابن حنبل في فضائل الصحابة من طريق مكحول عن جبير بن نفير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا. وهذا الحديث تقدم في حديث أبي الدرداء.
ويبدو أن الرواية المشتملة على الحديثين كليهما عن عوف بن مالك غير صحيحة للقرائن التالية:
حديث عوف بن مالك الذي هو الحديث الأول رُوي عنه من ستة طرق وليس في أي منها الزيادة التي هي نص الحديث الثاني.
حديث جبير بن نفير الذي هو الحديث الثاني رواه عنه اثنان من ثقات أصحابه، وقال أحدهما عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر عن جبير بن نفير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا، ولم يقل أي منهما إنه عن كعب بن مالك.
هذه الرواية المشتملة على الحديثين كليهما تفرد بها صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، وعبد الرحمن بن جبير وثقه أبو زرعة والنسائي وذكره ابن حبان في الثقات، لكن قال فيه ابن سعد: كان ثقة وبعض الناس يستنكر حديثه. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. فهو ثقة فيه لين.
يبدو أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير سمع من أبيه الحديث الأول الذي يرويه عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي رواه جماعة من الرواة عنه، وهو ينتهي عند قوله "تحت كل غاية اثنا عشر ألفا"، كما سمع منه الحديث الثاني الذي يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "فسطاط المسلمين يوم الملحمة الغوطة في مدينة يُقال لها دمشق"، فتوهم أنهما كليهما بالإسناد الأول، فرواهما به هكذا مجموعين.
وهذا يعني أن من روى حديث "فسطاط المسلمين يوم الملحمة الغوطة في مدينة يُقال لها دمشق" عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك فقد وهِم.
ـ وأما حديث معاذ بن جبل فرواه ابن عساكر من طريق عمرو بن واقد عن عروة بن رويم عن أبي مالك الأشعري عن معاذ مرفوعا به نحوه. عمرو بن واقد متروك الحديث واتهم بالكذب.
ورواه ابن عساكر من طرق عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن معاذ مرفوعا به نحوه. سعيد ثقة إمام ثم اختلط، ومكحول لم يدرك معاذ بن جبل.
ـ وأما حديث الرجل الذي هو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرواه ابن حنبل وابن عساكر عن اثنين عن أبي بكر بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أنه قال: حدثنا رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. به نحوه.
وفي بعض طرقه عند ابن عساكر من طريق ابن أبي مريم بلفظ "حدثني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"، وفي بعض طرقه عنده كذلك "عن رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"، وفي بعض طرقه بدون ذكر الصحابي مرسلا، وهذا كله من تخليط ابن أبي مريم، فإنه ضعيف.
ـ وأما حديث أبي هريرة فرواه نـُعيم بن حماد في الفتن والبسوي في المعرفة والطبراني في مسند الشاميين وابن عساكر من طرق عن الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن سليمان بن حبيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وقعت الملاحم خرج بعث من دمشق من الموالي هم أكرم العرب فرسا وأجودهم سلاحا يؤيد الله بهم الدين".
عثمان بن أبي العاتكة ضعفوه، وقرنه ابن معين بعفير بن معدان وسعيد بن سنان، وكل منهما منكر الحديث وليس بثقة، فهو ضعيف جدا.
وفي سنده علة أخرى، وهي أن سليمان بن حبيب دمشقي مات سنة 126، وسنوات وَفـَيَات شيوخه هكذا: 58، وهو أبو هريرة، 60، وهو معاوية بن أبي سفيان، بعد 80، 86، بعد 90، 93، 101، بعد 106. وهذا يعني أنه لم يرو عمن وَفـَيَاتهم بعد سنة 60 إلى سنة 80، وأنه توفي بعد معاوية بستة وستين عاما، وبعد أبي هريرة بثمانية وستين عاما، ولم يذكروا في ترجمته أنه من المعمَّرين، فمن المستبعد أن يكون قد أدرك معاوية، ولئن كان قد أدركه وهما في دمشق فمن المستبعد جدا أن يكون قد أدرك أبا هريرة الذي مات قبل ذلك في المدينة، فالظاهر ـ حسب هذه القرائن ـ أنه لم يسمع من أبي هريرة، وبذلك يكون هذا السند منقطعا.
ـ وأما مرسل أبي الزاهرية فرواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في المصنف عن عيسى بن يونس عن أبي بكر بن أبي مريم عن أبي الزاهرية حُدير بن كريب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معقل المسلمين من الملاحم دمشق، ومعقلهم من الدجال بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج بيت الطور". ابن أبي مريم ضعيف.
ولعل أصل هذه الرواية المرسلة هو أنها من قول كعب الأحبار، فقد رواها نـُعيم بن حماد في الفتن والحاكم وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن وابن عساكر من طريق أبي الزاهرية عن كعب الأحبار أنه قال: معقل المسلمين من الملاحم دمشق، ومن الدجال نهر أبي فـُطـْرُس، ومن يأجوج ومأجوج الطور. كما رواها نعيم بن حماد وابن عساكر من طريق شريح بن عبيد أن معاوية بن أبي سفيان سأل كعب الأحبار عن حمص ودمشق فقال: دمشق معقل المسلمين من الروم، ...".
ـ خلاصة القول في هذا الحديث:
حديث أبي الدرداء رواه زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه مكحول عن جبير بن نفير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلا، فالطريق الموصول معلول بعلة الإرسال.
طريق أبي بكر بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيه ابن أبي مريم وهو ضعيف.
حديث معاذ فيه راو متروك الحديث واتهم بالكذب.
حديث أبي هريرة ضعيف جدا.
مرسل أبي الزاهرية ضعيف ومعلول بأنه من قول كعب الأحبار.
والخلاصة أن هذا الحديث ضعيف.
والحمد لله رب العالمين.